Contact Us
Ektisadi.com
اقتصاد

التوتر الصيني–الأميركي والاقتصاد العالمي: من الاستثمار إلى إعادة تشكيل النفود

IMG_9478

يشهد العالم في السنوات الأخيرة تصاعداً غير مسبوق في حدة التوتر بين الصين والولايات المتحدة، وهو توتر يتجاوز ساحات السياسة إلى قلب الاقتصاد العالمي، حيث أصبحت المنافسة بين القوتين تؤثر مباشرة على حركة التجارة والاستثمار والتكنولوجيا. هذا الصراع الذي وصفه صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في نيسان 2024 بعنوان “World Economic Outlook” بأنه «أخطر انقسام جيو-اقتصادي منذ نهاية الحرب الباردة»، يعيد رسم خريطة تدفقات رؤوس الأموال حول العالم ويهدد استقرار سلاسل الإمداد التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي.

بحسب تقرير الاستثمار العالمي 2024 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمية إلى نحو 1.3 تريليون دولار في عام 2023، مقارنة بـ 1.6 تريليون دولار في عام 2022، وذلك نتيجة تصاعد التوترات الجيوسياسية وارتفاع معدلات الفائدة وتزايد القيود التجارية والتكنولوجية. وذكر التقرير أن «الانقسام بين الولايات المتحدة والصين أصبح أحد أبرز العوامل المسببة لحالة عدم اليقين لدى المستثمرين العالميين»، إذ باتت الشركات الكبرى تضع في حسابها مخاطر سياسية قبل اتخاذ أي قرار توسعي في آسيا أو أميركا الشمالية.

أما على الصعيد الصيني، فقد أظهرت بيانات المكتب الوطني للإحصاء في الصين (NBS) أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلاد بلغت 163.2 مليار دولار في عام 2023، منخفضة بنسبة 13.6٪ مقارنة بالعام السابق، وهو أول انخفاض سنوي منذ عقد تقريباً. وأشارت وكالة رويترز (تقرير 20 شباط 2024) إلى أن هذا التراجع يعكس قلق المستثمرين الأجانب من البيئة التنظيمية في الصين ومن القيود الأميركية على التكنولوجيا الفائقة. وفي المقابل، ذكرت بلومبيرغ (Bloomberg Economics) أن بعض الشركات الآسيوية والأوروبية بدأت بنقل خطوط إنتاجها إلى فيتنام وإندونيسيا والمكسيك لتقليل اعتمادها على السوق الصينية ضمن ما يسمى استراتيجيات “friend-shoring” أو التموضع الآمن جغرافياً.

في الجانب الأميركي، اتخذت إدارة الرئيس جو بايدن سلسلة من الإجراءات لتقليص النفوذ الصناعي الصيني، من أبرزها قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم (CHIPS and Science Act) الصادر عام 2022، الذي خصص أكثر من 52 مليار دولار لدعم الصناعة المحلية للرقائق. ووفقاً لتقرير وزارة التجارة الأميركية الصادر في مايو 2024، فإن هذه الاستراتيجية أدت إلى زيادة الاستثمارات المحلية في قطاع أشباه الموصلات بنسبة 24٪ خلال عام واحد، لكنها في الوقت ذاته ساهمت في رفع تكاليف الإنتاج على المستوى العالمي وأبطأت تبادل التكنولوجيا عبر الحدود.

تحليل صندوق النقد الدولي (IMF Policy Paper – March 2024) أشار إلى أن استمرار هذا النهج المزدوج من العقوبات والقيود المتبادلة قد يخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 1.2٪ بحلول عام 2030، أي ما يعادل خسارة تفوق 1 تريليون دولار سنوياً، نتيجة انخفاض الكفاءة في سلاسل التوريد وزيادة الحواجز الجمركية. كما أضاف الصندوق أن البلدان النامية ستكون الأكثر تضرراً لأنها تعتمد على التمويل الصيني أو الأميركي في مشاريع البنية التحتية، بينما ستستفيد اقتصادات مثل الهند وماليزيا والمكسيك من إعادة توجيه الاستثمارات الصناعية بعيداً عن الصين.

وفي السياق نفسه، أوضح تقرير البنك الدولي “Global Economic Prospects – June 2024” أن التشظي الجيو-اقتصادي الناتج عن الصراع الصيني-الأميركي ساهم في تباطؤ نمو التجارة العالمية إلى أقل من 2.5٪، وهو أدنى معدل منذ جائحة كورونا، كما أدّى إلى انخفاض الاستثمارات العابرة للحدود بنسبة تقارب 10٪ خلال عام واحد. وأكد التقرير أن استمرار هذه الاتجاهات قد يؤدي إلى «انقسام طويل الأمد في الاقتصاد العالمي إلى كتل اقتصادية متنافسة»، ما يفرض تحديات على الدول التي تحاول جذب الاستثمارات من الجانبين دون الدخول في صراعات سياسية.

أما مؤسسة ماكينزي العالمية (McKinsey Global Institute) فلفتت في تحليلها الصادر في سبتمبر 2024 إلى أن الشركات متعددة الجنسيات باتت تنفق ما يقارب 65 مليار دولار سنوياً لإعادة توطين سلاسل التوريد بعيداً عن الصين، وهو مبلغ يعادل ثلاثة أضعاف ما كانت تنفقه عام 2016. هذا التحول، وإن كان يزيد من مرونة الإنتاج، إلا أنه يرفع تكلفة السلع النهائية ويغذي معدلات التضخم في الاقتصادات المستوردة.

من زاوية أسواق المال، تُظهر بيانات بلومبيرغ ماركتس (Bloomberg Markets Data – 2024) أن مؤشرات الأسهم التكنولوجية في الصين فقدت أكثر من 18٪ من قيمتها منذ بداية 2023 حتى منتصف 2024، في حين شهدت شركات الدفاع الأميركية ارتفاعاً بنسبة 22٪ في نفس الفترة نتيجة التوترات الجيوسياسية وزيادة الإنفاق العسكري في آسيا والمحيط الهادئ. هذا التباين يعكس انتقال رؤوس الأموال من قطاعات التكنولوجيا الصينية إلى قطاعات تُعتبر “آمنة” في ظل الصراع المستمر.

ويُجمع الخبراء على أن التوتر بين القوتين لن ينتهي قريباً، وأن الاقتصاد العالمي يتجه نحو ما تسميه مجموعة أكسفورد إيكونوميكس (Oxford Economics) بـ«العولمة الانتقائية»، حيث تستمر حركة التجارة والاستثمار، لكنها تتوزع وفق اعتبارات سياسية وتحالفات أمنية أكثر من كونها اقتصادية بحتة. وفي هذا الإطار، ترى فايننشال تايمز (Financial Times – يوليو 2024) أن الشركات العالمية بدأت تعتمد مبدأ “الحياد الجغرافي” في استراتيجياتها لتجنّب العقوبات أو القيود، فتقسم عملياتها بين مناطق نفوذ مختلفة.

في المحصلة، يظهر أن التوتر الصيني–الأميركي أصبح عاملاً بنيوياً يعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، لا مجرد أزمة عابرة. فوفقاً لتقديرات UNCTAD، سيبقى حجم تدفقات الاستثمار الأجنبي العالمي دون مستوى 1.5 تريليون دولار سنوياً حتى عام 2026 ما لم يتحقق انفراج سياسي أو تعاون اقتصادي أوسع بين القوتين. ومع ذلك، تتيح هذه الأزمة فرصاً جديدة للدول التي تستطيع أن تقدم بيئة مستقرة ومحايدة لجذب الاستثمارات المتنقلة.

إن ما يجري ليس مجرد صراع تجاري بل تحول في قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية، حيث يختلط الأمن القومي بالاقتصاد، والتكنولوجيا بالسياسة، والاستثمار بالموقع الجغرافي. وبينما تحاول الصين تعزيز مبادرة “الحزام والطريق” كأداة لتوسيع نفوذها الاقتصادي، تسعى الولايات المتحدة إلى بناء شبكات بديلة من الحلفاء الصناعيين والتكنولوجيين. وفي ضوء هذه المعادلة، يصبح العالم أكثر انقساماً، لكن أيضاً أكثر ديناميكية، ما يجعل إدارة المخاطر والتنوع الاستراتيجي في الاستثمار ضرورة لا ترفاً.