هكذا تؤثر أزمة الدولار على الاقتصاد والمعيشة في الشرق الأوسط

شهد لبنان وسوريا والعراق خلال السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في قيمة عملاتها المحلية مقابل الدولار الأميركي، ما أثار قلقًا واسعًا بشأن الإستقرار الإقتصادي والمعيشي في هذه الدول. ففي لبنان، وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي (IMF, Regional Economic Outlook, 2025)، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها الرسمية منذ عام 2019، بعد الأزمة المصرفية والمالية التي عمّقت نقص الدولار في السوق، كما تسببت في تضخم قياسي وصل إلى أكثر من 150% في عام 2024 بحسب بيانات البنك الدولي (World Bank, 2024).
أما في سوريا، فقد أشار تقرير الأمم المتحدة (UN, Humanitarian Needs Overview, 2025) إلى أن قيمة الليرة السورية تراجعت بشكل حاد نتيجة العقوبات الدولية، وتفاقم الأزمة الإقتصادية الناتجة عن الحرب المستمرة منذ عام 2011، حيث سجلت الليرة السورية انخفاضًا تجاوز 80% مقابل الدولار في السوق الموازية خلال السنوات الأخيرة. وقد أدت هذه التراجعات إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية والطاقة، ما أثر على قدرة الأسر السورية على تلبية إحتياجاتها الأساسية.
في العراق، أظهر تقرير البنك الدولي (World Bank, Iraq Economic Monitor, 2025) أن الدينار العراقي شهد تقلبات حادة أمام الدولار منذ عام 2020، نتيجة الإعتماد الكبير على عائدات النفط وتقلب أسعارها عالميًا، بالإضافة إلى تحديات في إدارة السيولة النقدية وارتفاع الدين العام. وعلى الرغم من أن العراق لم يشهد انهيارًا مماثلًا للبنان أو سوريا، إلا أن تراجع قيمة الدينار أدى إلى ضغوط تضخمية وصلت إلى حوالي 35% خلال العامين الأخيرين، وفقًا لإحصاءات البنك المركزي العراقي (2025).
وتعود أسباب تراجع قيمة العملات المحلية في هذه الدول إلى مجموعة من العوامل الإقتصادية والسياسية المتشابكة. ففي لبنان، أدى إنهيار النظام المصرفي وارتفاع المديونية العامة إلى فقدان الثقة في الليرة، كما ساهمت الأزمة السياسية المستمرة وتراجع الإنتاج المحلي في تفاقم الضغوط على العملة المحلية. أما في سوريا، فتلعب الحرب المستمرة والعقوبات الإقتصادية الدولية دورًا رئيسيًا في تحديد سعر صرف الليرة، بينما يؤثر ضعف الناتج المحلي وارتفاع الإعتماد على الواردات على مستوى الدولار في السوق. وفي العراق، ترتبط التقلبات بتذبذب أسعار النفط عالميًا، وتأخر الإصلاحات المالية والهيكلية، وكذلك ضعف التنويع الإقتصادي، ما يجعل الدينار حساسًا لتغيرات عوائد النفط.
أما التداعيات، فهي متشابهة نسبيًا على مستوى الإقتصاد والمعيشة. فالتراجع الكبير للعملة يؤدي إلى ارتفاع التضخم وزيادة أسعار المواد الأساسية، كما يضعف القدرة الشرائية للمواطنين ويزيد من حدة الفقر. وفقًا لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (UNDP, 2024)، فإن انخفاض قيمة الليرة اللبنانية والدينار السوري أثر بشكل مباشر على مؤشرات الفقر والبطالة، بينما في العراق، تسبب التراجع النسبي للدينار في زيادة تكلفة الواردات وتعطيل بعض المشاريع الإستثمارية الحكومية والخاصة.
يؤدي انخفاض قيمة العملات إلى ضغوط على ميزان المدفوعات، حيث تحتاج الدول لاستيراد المواد الأساسية بالدولار، ما يزيد الطلب على العملة الأجنبية ويضعف إحتياطيات النقد الأجنبي، كما يحد من قدرة الحكومات على تمويل المشاريع التنموية ودعم القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والطاقة، وفقًا لتقارير IMF وWorld Bank 2025.
وعلى المستوى الإجتماعي، تتفاقم المشاكل مع انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، ما يزيد من الإحتياجات الإنسانية ويضغط على برامج الدعم الاجتماعي. فقد سجلت تقارير UNICEF وWorld Bank 2025 ارتفاعًا في عدد الأسر غير القادرة على تأمين الغذاء الكافي للأطفال في لبنان وسوريا، بينما أثر انخفاض قيمة الدينار العراقي على الأسر ذات الدخل المحدود في المناطق الداخلية والريفية.
تحاول بعض الحكومات اتخاذ إجراءات للتخفيف من آثار انخفاض العملات، مثل دعم الصرف الرسمي أو فرض قيود على الاستيراد وتحفيز الإنتاج المحلي، إلا أن هذه الحلول غالبًا ما تكون مؤقتة وتحتاج إلى إصلاحات أوسع تشمل استقرار سياسي، تنويع الاقتصاد، وإدارة أفضل للإحتياطيات الأجنبية.
إن تراجع قيمة العملات المحلية في لبنان وسوريا والعراق يعكس تفاعلًا معقدًا بين السياسة والإقتصاد والصدمات الخارجية، ولا يمكن تفسيره بعامل واحد فقط. كما تظهر التجربة أن الحلول المستدامة تتطلب إصلاحات هيكلية شاملة، تحسين إدارة المالية العامة، وتعزيز الثقة في النظام النقدي لضمان إستقرار العملة والحد من تأثيراتها على المواطنين والإقتصاد العام.
