من واقعية الحكاية إلى سحر العوالم المتخيلة

شكّل التحوّل من الرواية الواقعية إلى رواية الفانتازيا أحد أبرز التحولات الأسلوبية والفكرية في الأدب المعاصر إذ لم يعد الكاتب العربي أو العالمي يكتفي بمرآة الواقع التي تبنّاها تيار الواقعية في القرن التاسع عشر مع كتّاب مثل بلزاك وديكنز كما يشير الناقد جورج لوكاتش في كتابه نظرية الرواية بل اتجه نحو تشكيل عوالم تتجاوز المألوف كي يكشف من خلالها حقائق أكثر عمقًا عن الإنسان والمجتمع عبر رموز وأساطير وبنى غرائبية تتقاطع مع التراث الإنساني المشترك. هذا الانتقال لم يكن هروبًا من الواقع بل محاولة لتفكيكه من زاوية أعلى فالفانتازيا هنا ليست مهربًا بل أداة معرفية كما يرى تزفيتان تودوروف في مقدمة إلى الأدب العجائبي.
لقد أسهمت التحولات السياسية والاجتماعية في العالم العربي في دفع كثير من الكتّاب إلى اعتماد الفانتازيا بوصفها مساحة تعبيرية أكثر حرية إذ يسمح هذا النمط بكسر القيود التقليدية للرواية وإعادة طرح الأسئلة الوجودية والإنسانية دون الاصطدام المباشر مع الواقع الصلب ويمكن ملاحظة ذلك في أعمال مثل حدائق الرئيس لمحسن الرملي وفرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي التي تجمع بين الملمح الواقعي والخارق بهدف تفكيك العنف والحرب والهوية وقد تناول الناقد عبدالله إبراهيم هذا الميل في كتابه السردية العربية الحديثة مؤكداً أن الفانتازيا أصبحت وسيلة لإعادة إنتاج الواقع عبر مرآة مضخّمة.
كما لعب الانفتاح على الثقافة العالمية دورًا أساسيًا في هذا التحوّل إذ شهدت العقود الأخيرة صعودًا مذهلاً لأعمال الفانتازيا مثل سيد الخواتم لتولكين وهاري بوتر لرولينغ وهو ما أتاح للكتّاب العرب اكتشاف طاقة السرد العجائبي وقدرته على خلق عوالم متكاملة مبنية على أساطير وقوانين داخلية صارمة لتصبح الفانتازيا نوعًا أدبيًا مستقلاً قادرًا على احتضان قضايا الهوية والحرية والسلطة بشكل رمزي عميق كما تشير الباحثة مارغريت أتوود في دراساتها حول الخيال المضارب ودوره في قراءة المستقبل.
أما على مستوى البناء الفني فقد فرضت الفانتازيا إعادة تشكيل العلاقة بين الراوي والعالم الحكائي إذ لم يعد الراوي معنيًا فقط بوصف شوارع المدن ووجوه الناس كما في الواقعية بل أصبح مسؤولًا عن خلق جغرافيا جديدة وقوانين كونية خاصة وهو ما يجعل عملية الكتابة أكثر تعقيدًا ويمنح القارئ تجربة جمالية مختلفة تفتح أمامه باب التأويل على مصراعيه كما يوضح أمبرتو إيكو في تحليله للروايات المتخيلة في كتاب محاضرات في السيميائيات والتخييل.
وفي المحصلة يمكن القول إن الانتقال من الرواية الواقعية إلى رواية الفانتازيا ليس انقطاعًا بل تطورًا طبيعيًا في مسار الفن السردي فحين يضيق الواقع عن احتضان أسئلته يلجأ الأدب إلى التخييل بوصفه فضاءً رحبًا يتيح للكاتب تفكيك العالم وإعادة تركيبه ومن خلال الفانتازيا يستعيد الأدب قدرته على إدهاش القارئ وكشف ما هو أبعد من الظاهر مؤكداً أن الحقيقة ليست دائمًا في ما نراه بل في ما نتخيّله.
